فصل: فَصْلٌ: الذُّنُوبُ صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [في العزمِ]:

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا يُفَسِّرُ التَّوْبَةَ بِالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَ الذَّنْبَ، وَبِالْإِقْلَاعِ عَنْهُ فِي الْحَالِ، وَبِالنَّدَمِ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ رَابِعٍ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ مِنْهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ بَعْضُ مُسَمَّى التَّوْبَةِ بَلْ شَرْطُهَا، وَإِلَّا فَالتَّوْبَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ- كَمَا تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ- تَتَضَمَّنُ الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالْتِزَامِهِ فَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ وَالنَّدَمِ تَائِبًا، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَالْإِتْيَانِ بِهِ، هَذَا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، لَكِنَّهَا إِذَا قُرِنَتْ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَتْ عِبَارَةً عَمَّا ذَكَرُوهُ، فَإِذَا أُفْرِدَتْ تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَيْنِ، وَهِيَ كَلَفْظَةِ التَّقْوَى الَّتِي تَقْتَضِي عِنْدَ إِفْرَادِهَا فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَقْتَضِي عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ الِانْتِهَاءَ عَنِ الْمَحْظُورِ.
فَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوْبَةِ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ بِالْتِزَامِ فَعْلِ مَا يُحِبُّ، وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُ، فَهِيَ رُجُوعٌ مِنْ مَكْرُوهٍ إِلَى مَحْبُوبٍ، فَالرُّجُوعُ إِلَى الْمَحْبُوبِ جُزْءُ مُسَمَّاهَا، وَالرُّجُوعُ عَنِ الْمَكْرُوهِ الْجُزْءُ الْآخَرُ، وَلِهَذَا عَلَّقَ سُبْحَانَهُ الْفَلَاحَ الْمُطْلَقَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ بِهَا، فَقَالَ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فَكُلُّ تَائِبٍ مُفْلِحٌ، وَلَا يَكُونُ مُفْلِحًا إِلَّا مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ ظَالِمٌ، كَمَا أَنَّ فَاعِلَ الْمَحْظُورِ ظَالِمٌ، وَزَوَالُ اسْمِ الظُّلْمِ عَنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ الْجَامِعَةِ لِلْأَمْرَيْنِ، فَالنَّاسُ قِسْمَانِ: تَائِبٌ وَظَالِمٌ لَيْسَ إِلَّا، فَالتَّائِبُونَ هُمُ {الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} فَحِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ جُزْءُ التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ هِيَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَائِبًا لِرُجُوعِهِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ مِنْ نَهْيِهِ، وَإِلَى طَاعَتِهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
فَإِذًا التَّوْبَةُ هِيَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى التَّوْبَةِ وَبِهَذَا اسْتَحَقَّ التَّائِبُ أَنْ يَكُونَ حَبِيبَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ، وَتَرَكَ مَا نَهَى عَنْهُ.
فَإِذًا التَّوْبَةُ هِيَ الرُّجُوعُ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِلَى مَا يُحِبُّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا الْإِسْلَامُ، وَالْإِيمَانُ، وَالْإِحْسَانُ، وَتَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَقَامَاتِ، وَلِهَذَا كَانَتْ غَايَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَبِدَايَةَ الْأَمْرِ وَخَاتِمَتَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي وُجِدَ لِأَجْلِهَا الْخَلْقُ، وَالْأَمْرُ وَالتَّوْحِيدُ جُزْءٌ مِنْهَا، بَلْ هُوَ جُزْؤُهَا الْأَعْظَمُ الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاؤُهَا.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَ التَّوْبَةِ وَلَا حَقِيقَتَهَا، فَضْلًا عَنِ الْقِيَامِ بِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا وَحَالًا، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّتَهُ لِلتَّوَّابِينَ إِلَّا وَهُمْ خَوَاصُّ الْخَلْقِ لَدَيْهِ.
وَلَوْلَا أَنَّ التَّوْبَةَ اسْمٌ جَامِعٌ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنِ الرَّبُّ تَعَالَى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ذَلِكَ الْفَرَحَ الْعَظِيمَ، فَجَمِيعُ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ هُوَ تَفَاصِيلُ التَّوْبَةِ وَآثَارُهَا.

.فَصْلٌ: الِاسْتِغْفَارُ:

وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ نَوْعَانِ: مُفْرَدٌ، وَمَقْرُونٌ بِالتَّوْبَةِ، فَالْمُفْرَدُ: كَقَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} وَكَقَوْلِ صَالِحٍ لِقَوْمِهِ {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وَالْمَقْرُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} وَقَوْلِ هُودٍ لِقَوْمِهِ {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} وَقَوْلِ صَالِحٍ لِقومه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} وَقَوْلِ شُعَيْبٍ {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} فَالِاسْتِغْفَارُ الْمُفْرَدُ كَالتَّوْبَةِ، بَلْ هُوَ التَّوْبَةُ بِعَيْنِهَا، مَعَ تَضَمُّنِهِ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مَحْوُ الذَّنْبِ، وَإِزَالَةُ أَثَرِهِ، وَوِقَايَةُ شَرِّهِ، لَا كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا السَّتْرُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَسْتُرُ عَلَى مَنْ يَغْفِرُ لَهُ وَمَنْ لَا يَغْفِرُ لَهُ، وَلَكِنَّ السَّتْرَ لَازِمُ مُسَمَّاهَا أَوْ جُزْؤُهُ، فَدَلَالَتُهَا عَلَيْهِ إِمَّا بِالتَّضَمُّنِ وَإِمَّا بِاللُّزُومِ.
وَحَقِيقَتُهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ، وَمِنْهُ الْمِغْفَرُ، لِمَا يَقِي الرَّأْسَ مِنَ الْأَذَى، وَالسَّتْرُ لَازِمٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَالْعِمَامَةُ لَا تُسَمَّى مِغْفَرًا، وَلَا الْقُبَّعُ وَنَحْوُهُ مَعَ سَتْرِهِ، فَلَا بُدَّ فِي لَفْظِ الْمِغْفَرِ مِنَ الْوِقَايَةِ، وَهَذَا الِاسْتِغْفَارُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ الْعَذَابَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ مُسْتَغْفِرًا، وَأَمَّا مَنْ أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ، وَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ مَغْفِرَتَهُ، فَهَذَا لَيْسَ بِاسْتِغْفَارٍ مُطْلَقٍ، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الْعَذَابَ، فَالِاسْتِغْفَارُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ، وَالتَّوْبَةُ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِغْفَارَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْآخَرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.
وَأَمَّا عِنْدَ اقْتِرَانِ إِحْدَى اللَّفْظَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، فَالِاسْتِغْفَارُ مَعْنَاهُ: طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا مَضَى، وَالتَّوْبَةُ مَعْنَاهُ: الرُّجُوعُ وَطَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا يَخَافُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ.
فَهَاهُنَا ذَنْبَانِ: ذَنْبٌ قَدْ مَضَى، فَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ: طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّهِ، وَذَنْبٌ يُخَافُ وُقُوعُهُ، فَالتَّوْبَةُ: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ رُجُوعٌ إِلَيْهِ لِيَقِيَهُ شَرَّ مَا مَضَى، وَرُجُوعٌ إِلَيْهِ لِيَقِيَهُ شَرَّ مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُذْنِبَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَكِبَ طَرِيقًا تُؤَدِّيهِ إِلَى هَلَاكِهِ، وَلَا تَوَصِّلُهُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يُوَلِّيَهَا ظَهْرَهُ، وَيَرْجِعَ إِلَى الطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا نَجَاتُهُ، وَالَّتِي تُوصِلُهُ إِلَى مَقْصُودِهِ، وَفِيهَا فَلَاحُهُ.
فَهَاهُنَا أَمْرَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا: مُفَارَقَةُ شَيْءٍ، وَالرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِهِ، فَخُصَّتِ التَّوْبَةُ بِالرُّجُوعِ، وَالِاسْتِغْفَارُ بِالْمُفَارَقَةِ، وَعِنْدَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَيْنِ، وَلِهَذَا جَاءَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- الْأَمْرُ بِهِمَا مُرَتَّبًا بِقَوْلِهِ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} فَإِنَّهُ الرُّجُوعُ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَاطِلِ.
وَأَيْضًا فَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ الضَّرَرِ، وَالتَّوْبَةُ طَلَبُ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، فَالْمَغْفِرَةُ أَنْ يَقِيَهُ شَرَّ الذَّنْبِ، وَالتَّوْبَةُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْوِقَايَةِ مَا يُحِبُّهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ عِنْدَ إِفْرَادِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ:

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَحَقِيقَتِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فَجَعَلَ وِقَايَةَ شَرِّ السَّيِّئَاتِ- وَهُوَ تَكْفِيرُهَا- بِزَوَالِ مَا يَكْرَهُ الْعَبْدُ، وَدُخُولِ الْجَنَّاتِ- وَهُوَ حُصُولُ مَا يُحِبُّ الْعَبْدُ- مَنُوطًا بِحُصُولِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالنَّصُوحُ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ الْمَعْدُولِ بِهِ عَنْ فَاعِلٍ قَصْدًا لِلْمُبَالَغَةِ، كَالشَّكُورِ وَالصَّبُورِ، وَأَصْلُ مَادَّةِ: ن ص ح لِخَلَاصِ الشَّيْءِ مِنَ الْغِشِّ وَالشَّوَائِبِ الْغَرِيبَةِ، وَهُوَ مُلَاقٍ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ لِنَصَحَ إِذَا خَلَصَ، فَالنُّصْحُ فِي التَّوْبَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْمَشُورَةِ تَخْلِيصُهَا مِنْ كُلِّ غِشٍّ وَنَقْصٍ وَفَسَادٍ، وَإِيقَاعُهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالنُّصْحُ ضِدُّ الْغِشِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ عَنْهَا، وَمَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ، كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضِّرْعِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ نَادِمًا عَلَى مَا مَضَى، مُجْمِعًا عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فِيهِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ، وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ، وَيُمْسِكَ بِالْبَدَنِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَوْبَةً نَصُوحًا، تَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ، جَعَلَهَا بِمَعْنَى نَاصِحَةٍ لِلتَّائِبِ، كَضَرُوبِ الْمَعْدُولِ عَنْ ضَارِبٍ.
وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَجْعَلُونَهَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ قَدْ نَصَحَ فِيهَا التَّائِبُ وَلَمْ يَشُبْهَا بِغِشٍّ، فَهِيَ إِمَّا بِمَعْنَى مَنْصُوحٍ فِيهَا، كَرَكُوبَةٍ وَحَلُوبَةٍ، بِمَعْنَى مَرْكُوبَةٍ وَمَحْلُوبَةٍ، أَوْ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ نَاصِحَةٌ كَخَالِصَةٍ وَصَادِقَةٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْإِقْلَاعُ بِالْأَبْدَانِ، وَإِضْمَارُ تَرْكِ الْعَوْدِ بِالْجِنَانِ، وَمُهَاجَرَةُ سَيْءِ الْإِخْوَانِ.
قُلْتُ: النُّصْحُ فِي التَّوْبَةِ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ:
الْأَوَّلُ: تَعْمِيمُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَاسْتِغْرَاقُهَا بِهَا بِحَيْثُ لَا تَدَعُ ذَنْبًا إِلَّا تَنَاوَلَتْهُ.
وَالثَّانِي: إِجْمَاعُ الْعَزْمِ وَالصِّدْقِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى عِنْدَهُ تَرَدُّدٌ، وَلَا تَلَوُّمٌ وَلَا انْتِظَارٌ، بَلْ يَجْمَعُ عَلَيْهَا كُلَّ إِرَادَتِهِ وَعَزِيمَتِهِ مُبَادِرًا بِهَا.
الثَّالِثُ: تَخْلِيصُهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَالْعِلَلِ الْقَادِحَةِ فِي إِخْلَاصِهَا، وَوُقُوعُهَا لِمَحْضِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا لَدَيْهِ، وَالرَّهْبَةِ مِمَّا عِنْدَهُ، لَا كَمَنْ يَتُوبُ لِحِفْظِ جَاهِهِ وَحُرْمَتِهِ، وَمَنْصِبِهِ وَرِيَاسَتِهِ، وَلِحِفْظِ حَالِهِ، أَوْ لِحِفْظِ قُوَّتِهِ وَمَالِهِ، أَوِ اسْتِدْعَاءِ حَمْدِ النَّاسِ، أَوِ الْهَرَبِ مِنْ ذَمِّهِمْ، أَوْ لِئَلَّا يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ السُّفَهَاءُ، أَوْ لِقَضَاءِ نَهْمَتِهِ مِنَ الدُّنْيَا، أَوْ لِإِفْلَاسِهِ وَعَجْزِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي تَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا وَخُلُوصِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَالْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِمَا يَتُوبُ مِنْهُ، وَالثَّالِثُ يَتَعَلَّقُ بِمَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ، وَالْأَوْسَطُ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ التَّائِبِ وَنَفْسِهِ، فَنُصْحُ التَّوْبَةِ الصِّدْقُ فِيهَا، وَالْإِخْلَاصُ، وَتَعْمِيمُ الذُّنُوبِ بِهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ تَسْتَلْزِمُ الِاسْتِغْفَارَ وَتَتَضَمَّنُهُ، وَتَمْحُو جَمِيعَ الذُّنُوبِ، وَهِيَ أَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّوْبَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

.فَصْلٌ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ:

وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُمَا مُقْتَرِنَيْنِ، وَذِكْرُ كُلًّا مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا عَنِ الْآخَرِ، فَالْمُقْتَرِنَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} وَالْمُنْفَرِدُ كَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} وَقَوْلِهِ فِي الْمَغْفِرَةِ {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} وَكَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} وَنَظَائِرِهِ.
فَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: ذُنُوبٌ، وَسَيِّئَاتٌ، وَمَغْفِرَةٌ، وَتَكْفِيرٌ.
فَالذُّنُوبُ: الْمُرَادُ بِهَا الْكَبَائِرُ، وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَاتِ: الصَّغَائِرُ، وَهِيَ مَا تَعْمَلُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، مِنَ الْخَطَأِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ، وَلِهَذَا جُعِلَ لَهَا التَّكْفِيرُ، وَمِنْهُ أُخِذَتِ الْكَفَّارَةُ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا سُلْطَانٌ وَلَا عَمَلٌ فِي الْكَبَائِرِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، فَلَا تَعْمَلُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، وَلَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السَّيِّئَاتِ هِيَ الصَّغَائِرُ وَالتَّكْفِيرِ لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ».
وَلَفْظُ الْمَغْفِرَةِ أَكْمَلُ مِنْ لَفْظِ التَّكْفِيرِ وَلِهَذَا كَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَالتَّكْفِيرُ مَعَ الصَّغَائِرِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَغْفِرَةِ يَتَضَمَّنُ الْوِقَايَةَ وَالْحِفْظَ، وَلَفْظَ التَّكْفِيرِ يَتَضَمَّنُ السَّتْرَ وَالْإِزَالَةَ، وَعِنْدَ الْإِفْرَادِ يَدْخُلُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} يَتَنَاوَلُ صَغَائِرَهَا وَكَبَائِرَهَا، وَمَحْوَهَا وَوِقَايَةَ شَرِّهَا، بَلِ التَّكْفِيرُ الْمُفْرَدُ يَتَنَاوَلُ أَسْوَأَ الْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا}.
وَإِذَا فُهِمَ هَذَا فَهْمَ السِّرِّ فِي الْوَعْدِ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالنَّصَبِ وَالْوَصَبِ بِالتَّكْفِيرِ دُونَ الْمَغْفِرَةِ، كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ هَمٍّ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى- حَتَّى الشَّوْكَةُ يَشَاكُهَا- إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ فَإِنَّ الْمَصَائِبَ لَا تَسْتَقِلُّ بِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، وَلَا تُغْفَرُ الذُّنُوبُ جَمِيعُهَا إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، أَوْ بِحَسَنَاتٍ تَتَضَاءَلُ وَتَتَلَاشَى فِيهَا الذُّنُوبُ، فَهِيَ كَالْبَحْرِ لَا يَتَغَيَّرُ بِالْجِيَفِ، وَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ.
فَلِأَهْلِ الذُّنُوبِ ثَلَاثَةُ أَنْهَارٍ عِظَامٍ يَتَطَهَّرُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ لَمْ تَفِ بِطُهْرِهِمْ طُهِّرُوا فِي نَهْرِ الْجَحِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: نَهْرُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَنَهْرُ الْحَسَنَاتِ الْمُسْتَغْرِقَةِ لِلْأَوْزَارِ الْمُحِيطَةِ بِهَا، وَنَهْرُ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ الْمُكَفِّرَةِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا أَدْخَلَهُ أَحَدَ هَذِهِ الْأَنْهَارِ الثَّلَاثَةِ، فَوَرَدَ الْقِيَامَةَ طَيِّبًا طَاهِرًا، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّطْهِيرِ الرَّابِعِ.

.فَصْلٌ: تَوْبَةُ الْعَبْدِ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنْ رَبِّهِ:

وَتَوْبَةُ الْعَبْدِ إِلَى اللَّهِ مَحْفُوفَةٌ بِتَوْبَةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَهَا، وَتَوْبَةٍ مِنْهُ بَعْدَهَا، فَتَوْبَتُهُ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنْ رَبِّهِ، سَابِقَةٍ وَلَاحِقَةٍ، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِذْنًا وَتَوْفِيقًا وَإِلْهَامًا، فَتَابَ الْعَبْدُ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ثَانِيًا، قَبُولًا وَإِثَابَةً، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ سَبَقَتْ تَوْبَتَهُمْ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جَعَلَتْهُمْ تَائِبِينَ، فَكَانَتْ سَبَبًا مُقْتَضِيًا لِتَوْبَتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا تَابُوا حَتَّى تَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَالْحُكْمُ يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ.
وَنَظِيرُ هَذَا هِدَايَتُهُ لِعَبْدِهِ قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ، فَيَهْتَدِي بِهِدَايَتِهِ، فَتُوجِبُ لَهُ تِلْكَ الْهِدَايَةُ هِدَايَةً أُخْرَى يُثِيبُهُ اللَّهُ بِهَا هِدَايَةً عَلَى هِدَايَتِهِ، فَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْهُدَى الْهُدَى بَعْدَهُ، كَمَا أَنَّ مِنْ عُقُوبَةِ الضَّلَالَةِ الضَّلَالَةُ بَعْدَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} فَهَدَاهُمْ أَوْلًا فَاهْتَدَوْا، فَزَادَهُمْ هُدًى ثَانِيًا، وَعَكْسُهُ فِي أَهْلِ الزَّيْغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} فَهَذِهِ الْإِزَاغَةُ الثَّانِيَةُ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى زَيْغِهِمْ.
وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ سِرِّ اسْمَيْهِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، فَهُوَ الْمُعِدُّ، وَهُوَ الْمُمِدُّ، وَمِنْهُ السَّبَبُ وَالْمُسَبَّبُ، وَهُوَ الَّذِي يُعِيذُ مِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِهِ: وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، وَالْعَبْدُ تَوَّابٌ، وَاللَّهُ تَوَّابٌ، فَتَوْبَةُ الْعَبْدِ رُجُوعُهُ إِلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ الْإِبَاقِ، وَتَوْبَةُ اللَّهِ نَوْعَانِ: إِذْنٌ وَتَوْفِيقٌ، وَقَبُولٌ وَإِمْدَادٌ.

.فَصْلٌ: مَبْدَأُ التَّوْبَةِ وَمُنْتَهَاهَا:

وَالتَّوْبَةُ لَهَا مَبْدَأٌ وَمُنْتَهًى، فَمَبْدَؤُهَا الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ بِسُلُوكِ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي نَصَبَهُ لِعِبَادِهِ، مُوصِلًا إِلَى رِضْوَانِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِسُلُوكِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} وَبِقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وَبِقَوْلِهِ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}.
وَنِهَايَتُهَا الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي الْمَعَادِ، وَسُلُوكُ صِرَاطِهِ الَّذِي نَصَبَهُ مُوصِلًا إِلَى جَنَّتِهِ، فَمَنْ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ بِالتَّوْبَةِ رَجَعَ إِلَيْهِ فِي الْمَعَادِ بِالثَّوَابِ، وَهَذَا هُوَ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} قَالَ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ: يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، مَتَابًا حَسَنًا يُفَضَّلُ عَلَى غَيْرِهِ فَالتَّوْبَةُ الْأُولَى- وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَنْ تَابَ- رُجُوعٌ عَنِ الشِّرْكِ، وَالثَّانِيَةُ: رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ لِلْجَزَاءِ وَالْمُكَافَأَةِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَزَاءَ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الْأَوَامِرِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ عَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ وَأَرَادَهَا، فَلْيَجْعَلْ تَوْبَتَهُ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَلِوَجْهِهِ خَالِصًا، لَا لِغَيْرِهِ.
التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ لَازِمُ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ إِشْعَارُ التَّائِبِ وَإِعْلَامُهُ بِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَعْلَمْ تَوْبَتَهُ إِلَى مَنْ؟ شَرْطُ الْإِخْلَاصِ فِي التَّوْبَةِ وَرُجُوعُهُ إِلَى مَنْ؟ فَإِنَّهَا إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ.
وَنَظِيرُ هَذَا- عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أَيِ اعْلَمْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ عَصَى أَوَامِرَهُ وَلَمْ يُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ.
وَالتَّأْوِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّ التَّوْبَةَ تَكُونُ أَوَّلًا بِالْقَصْدِ وَالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهَا، ثُمَّ إِذَا قَوِيَ الْعَزْمُ وَصَارَ جَازِمًا وَجَدَ بِهِ فِعْلَ التَّوْبَةِ، فَالتَّوْبَةُ الْأُولَى بِالْعَزْمِ وَالْقَصْدِ لِفِعْلِهَا، وَالثَّانِيَةُ بِنَفْسِ إِيقَاعِ التَّوْبَةِ وَإِيجَادِهَا، وَالْمَعْنَى: فَمَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ قَصْدًا وَنِيَّةً وَعَزْمًا، فَتَوْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ عَمَلًا وَفِعْلًا، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».

.فَصْلٌ: الذُّنُوبُ صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ:

وَالذُّنُوبُ تَنْقَسِمُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَبِالِاعْتِبَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ- مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ».
وَأَمَّا مَا يُحْكَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرُ، وَلَيْسَ فِيهَا صَغَائِرُ، فَلَيْسَ مُرَادَهُ أَنَّهَا مُسْتَوِيَةٌ فِي الْإِثْمِ، بِحَيْثُ يَكُونُ إِثْمُ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ، كَإِثْمِ الْوَطْءِ فِي الْحَرَامِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ عُصِيَ بِهَا كُلَّهَا كَبَائِرُ، وَمَعَ هَذَا فَبَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، وَمَعَ هَذَا فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ لَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى.
وَالَّذِي جَاءَ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ لَمَمًا وَمُحَقَّرَاتٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اللَّمَمَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَالُوا: وَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُلِمَّ بِالْكَبِيرَةِ مَرَّةً، ثُمَّ يَتُوبَ مِنْهَا، وَيَقَعُ فِيهَا ثُمَّ يَنْتَهِي عَنْهَا، لَا يَتَّخِذُهَا دَأْبَهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءُ اللَّمَمِ مِنَ الِاجْتِنَابِ إِذْ مَعْنَاهُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ، وَلَا تَقَعُ مِنْهُمُ الْكَبَائِرُ إِلَّا لَمَمًا.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ يَقَعُ مِنْهُمُ اللَّمَمُ.
وَحَسُنَ وُقُوعُ الِانْقِطَاعِ بَعْدَ الْإِيجَابِ- وَالْغَالِبُ خِلَافُهُ- أَنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ حَيْثُ يَقَعُ التَّفْرِيغُ، إِذْ فِي الْإِيجَابِ هُنَا مَعْنَى النَّفْيِ صَرِيحًا، فَالْمَعْنَى: لَا يَأْتُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، فَحَسُنَ اسْتِثْنَاءُ اللَّمَمِ.
وَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي شَجَّعَ أَبَا إِسْحَاقَ عَلَى أَنْ قَالَ: الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرُ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ، وَلَا سِيَّمَا وَهُوَ مِنْ مُوجَبٍ.
وَلَكِنَّ النُّصُوصَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي فَصْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِي اللَّمَمِ مَا هُوَ؟ وَالثَّانِي: فِي الْكَبَائِرِ وَهَلْ لَهَا عَدَدٌ يَحْصُرُهَا، أَوْ حَدٌّ يَحُدُّهَا؟ فَلْنَذْكُرْ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِالْفَصْلَيْنِ.

.فَصْلٌ: اللَّمَمِ:

فَأَمَّا اللَّمَمُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ الْإِلْمَامُ بِالذَّنْبِ مَرَّةً، ثُمَّ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: هَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: اللَّمَمُ مَا دُونَ الشِّرْكِ قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ أَبُو صَالِحٍ: سُئِلْتُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَّا اللَّمَمَ}؟ فَقُلْتُ: هُوَ الرَّجُلُ يُلِمُّ بِالذَّنْبِ ثُمَّ لَا يُعَاوِدُهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهَا مَلَكٌ كَرِيمٌ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ اللَّمَمَ مَا دُونَ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ طَاوُوسٍ عَنْهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ وَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَى».
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اللَّمَمُ عَلَى وَجْهَيْنِ، كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا، وَلَا عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ، فَذَلِكَ الَّذِي تُكَفِّرُهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، مَا لَمْ يَبْلُغِ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ هُوَ الذَّنْبُ الْعَظِيمُ، يُلِمُّ بِهِ الْمُسْلِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، فَيَتُوبُ مِنْهُ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: هُوَ مَا أَلَمَّ بِالْقَلْبِ، أَيْ مَا خَطَرَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: اللَّمَمُ النَّظَرُ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَهُوَ مَغْفُورٌ، فَإِنْ أَعَادَ النَّظَرَ فَلَيْسَ بِلَمَمٍ، وَهُوَ ذَنْبٌ، وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ** وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّمَمَ مَا فَعَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ، فَاللَّهُ لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: أَنْتُمْ بِالْأَمْسِ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ اللَّمَمَ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ، كَالنَّظْرَةِ، وَالْغَمْزَةِ، وَالْقُبْلَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: إِنَّهُ يُلِمُّ بِالْكَبِيرَةِ ثُمَّ لَا يَعُودُ إِلَيْهَا، فَإِنَّ اللَّمَمَ إِمَّا أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا، وَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا قَالَ الْكَلْبِيُّ، أَوْ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ أَلْحَقَا مَنِ ارْتَكَبَ الْكَبِيرَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً- وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهَا، بَلْ حَصَلَتْ مِنْهُ فَلْتَةٌ فِي عُمْرِهِ- بِاللَّمَمِ، وَرَأَيَا أَنَّهَا إِنَّمَا تَتَغَلَّظُ وَتَكْبُرُ وَتَعْظُمُ فِي حَقِّ مَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَهَذَا مِنْ فِقْهِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَوْرِ عُلُومِهِمْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ يُسَامِحُ عَبْدَهُ الْمَرَّةَ وَالْمَرَّتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، وَإِنَّمَا يُخَافُ الْعَنَتُ عَلَى مَنِ اتَّخَذَ الذَّنْبَ عَادَتَهُ، وَتَكَرَّرَ مِنْهُ مِرَارًا كَثِيرَةً، وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ سَلَفِيَّةٌ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْوَاقِعِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دُفِعَ إِلَيْهِ سَارِقٌ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ غَيْرَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَقَالَ: كَذَبْتَ، فَلَمَّا قُطِعَتْ يَدُهُ قَالَ: اصْدُقْنِي، كَمْ لَكَ بِهَذِهِ الْمَرَّةِ؟ فَقَالَ: كَذَا وَكَذَا مَرَّةً؟ فَقَالَ: صَدَقْتَ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ بِأَوَّلِ ذَنْبٍ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَأَوَّلُ ذَنْبٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ اللَّمَمَ، فَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ وَنَظِيرُهُ، فَالْقَوْلَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ مُتَّفِقَانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ فِيهَا مَعْنَى الْمُقَارَبَةِ وَالْإِعْتَابِ بِالْفِعْلِ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَلَمَّ بِكَذَا، إِذَا قَارَبَهُ وَلَمْ يَغْشَهُ، وَمِنْ هَذَا سُمِّيَتِ الْقُبْلَةُ وَالْغَمْزَةُ لَمَمًا، لِأَنَّهَا تُلِمُّ بِمَا بَعْدَهَا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ لَا يَزُورُنَا إِلَّا لِمَامًا، أَيْ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، فَمَعْنَى اللَّفْظَةِ ثَابِتٌ فِي الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ فَسَّرَ الصَّحَابَةُ بِهِمَا الْآيَةَ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ فَإِنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَهُ، فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ اجْتِنَابِ اللَّمَمِ، وَهَذَا مُحَالٌ، وَإِنَّمَا هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَضْمُونِ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ، فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي تَقْسِيمِ النَّاسِ إِلَى مُحْسِنٍ وَمُسِيءٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يَجْزِي هَذَا بِإِسَاءَتِهِ وَهَذَا بِإِحْسَانِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُحْسِنِينَ وَوَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، وَمَضْمُونُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْسِنًا مَجْزِيًّا بِإِحْسَانِهِ، نَاجِيًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، إِلَّا مَنِ اجْتَنَبَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ، فَحَسُنَ حِينَئِذٍ اسْتِثْنَاءُ اللَّمَمِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْكَبَائِرِ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي جِنْسِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ.
وَضَابِطُ الِانْقِطَاعِ أَنْ يَكُونَ لَهُ دُخُولٌ فِي جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَفْظُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} فَإِنَّ السَّلَامَ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ جِنْسُ اللَّغْوِ وَالسَّلَامِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} فَإِنَّ الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ دَاخِلٌ فِي جِنْسِ الذَّوْقِ الْمُنْقَسِمِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ فِي الْأَوَّلِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا سَلَامًا، وَفِي الثَّانِي: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، وَنَصَّ عَلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ تَصْرِيحًا، لِيَكُونَ نَفْيُهُ بِطَرِيقِ التَّصْرِيحِ وَالتَّنْصِيصِ، لَا بِطْرِيقِ الْعُمُومِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَخْصِيصُ هَذَا الْفَرْدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} فَإِنَّ الظَّنَّ دَاخِلٌ فِي الشُّعُورِ الَّذِي هُوَ جِنْسُ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ.
وَأَدَقُّ مِنْ هَذَا دُخُولُ الِانْقِطَاعِ فِيمَا يُفْهِمُهُ الْكَلَامُ بِلَازِمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} إِذْ مَفْهُومُ هَذَا أَنَّ نِكَاحَ مَنْكُوحَاتِ الْآبَاءِ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُ عَفْوٌ، وَكَذَلِكَ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْقُبْحِ الْمَفْهُومِ مِنْ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَالذَّمِّ لِمَنْ فَعَلَهُ، فَحَسُنَ أَنْ يُقَالَ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ لِتَحْقِيقِ دَوَامِ الْحَيَاةِ وَعَدَمِ ذَوْقِ الْمَوْتِ، وَهُوَ يَجْعَلُ النَّفْيَ الْأَوَّلَ الْعَامَّ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ اسْتِثْنَاءٌ الْبَتَّةَ، إِذْ لَوْ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ اسْتِثْنَاءُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ لَكَانَ أَوْلَى بِذِكْرِهِ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، فَجَرَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مَجْرَى التَّأْكِيدِ، وَالتَّنْصِيصِ عَلَى حِفْظِ الْعُمُومِ، وَهَذَا جَارٍ فِي كُلِّ مُنْقَطِعٍ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ الْعَرَبِيَّةِ.
فَقَوْلُهُ: وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الْأَوَارِيَّ، يُفْهَمُ مِنْهُ لَوْ وَجَدْتُ فِيهَا أَحَدًا لَاسْتَثْنَيْتُهُ وَلَمْ أَعْدِلْ إِلَى الْأَوَارِيِّ الَّتِي لَيْسَتْ بِأَحَدٍ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا لَفْظَةُ أَوْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} وَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} هُوَ كَالتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ الْحَقِيقَةُ لَا الْمُبَالَغَةُ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ تَزِدْ قَسْوَتُهَا عَلَى الْحِجَارَةِ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ لَا دُونَهَا، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَزِدْ عَدَدُهُمْ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ لَمْ يَنْقُصْ عَنْهَا، فَذِكْرُ أَوْ هَاهُنَا كَالتَّنْصِيصِ عَلَى حِفْظِ الْمِائَةِ الْأَلْفِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا أُرِيدَ بِهَا الْمُبَالَغَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.